09‏/10‏/2013

دور المسجد في المجتمع .. من خلال الرؤية الحسنية

هذا بحث قمت به قبل 7  سنوات وتم نشره في مجلة مرفأ السلام الصادرة عن اللجنة الثقافية في قافلة السلام في آخر عام للقافلة وأول عام للمجلة.. وأعتقد رغم الزمن أن فيه توضيحاً لما ينبغي أن يكون عليه المسجد، ولذلك أتمنى عليك عزيزي القارئ أن تأخذ هذه المدة في عين الاعتبار عند نظرك إلى لغة الموضوع وأسلوبه .. فأنا لم أعد ذلك الذي كتبه.
 
 
التكامل في السير إلى الله
بقلم: يوسف اليوسف النمر
مدخل
   الإنسان عندما تحاصره الهموم وتلفحه الأحزان وتطرق بابه النوائب فإنه يفتش عن الروح الذي يبثه همومه وأحزانه وربما يناجيه ويفضي إليه ما يجد ويحط من الثقل الجاثم على صدره ويرجّل الهم الممتطي قلبه وذلك لأن النفس تمل من الحمل وتحتاج إلى البوح ولا تبوح إلا لمن يستحق ويتحمل.
   والذي يتسع صدره إلى هذا البوح يستحق الجائزة الإلهية على هذا الاستماع لأنه ساعد أخاه على تحمل همه وربما مد إليه يد العون في إيجاد المخارج مما هو فيه وهذا العمل هو من أحب الأعمال إلى الله تعالى. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب".
   وهنا أعتقد أنه علينا أن نتوقف قليلا ونرجع إلى أنفسنا ونسألها: إلى من يا ترى كان علي بن أبي طالب يلجأ ليلقي عن كاهله الهموم إذا ألمت به؟! ومن هو الذي يستحق أن يحمل هم الإمام علي عليه السلام الذي حمل هموم الدنيا وحسبه أنه صبر"وفي العين أذى وفي الحلق شجا"؟! يا ترى من هو هذا الذي يعي هم الإمام أمير المؤمنين حق الوعي؟!
   هذه الاستفهامات نجد جوابها في كتاب أمير المؤمنين الخالد ووصيته الرائعة التي أوصى بها ابنه الإمام الحسن حيث يقول: "أما بعد: فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني وجموح الدهر علي وإقبال الآخرة إلي ما يزعني عن ذكر من سواي والاهتمام بما ورائي غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي فصدفني رأيي وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب. ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي .......".
   هنا نجد أن أمير المؤمنين الذي جعله القرآن الكريم في منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله (وأنفسنا وأنفسكم) قد جعل منزلة الإمام الحسن من نفسه كذلك "بل وجدتك كلي" "فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي" وهذا يدعونا إلى الوقوف أمام شخصية الإمام الحسن عليه السلام.
   ولا يجدر بأحد أن يدعي بأنه سيسلط الضوء على شخصيته عليه السلام لأنه من أهل بيت خلفهم من سلفهم "كالضوء من الضوء" ولكننا سنحاول أن نقتبس من هذه الأنوار التي اختارها الله لنا وسأحاول أن يكون هذا الموضوع انطلاقة لي ولك عزيزي القارئ إلى البحث عن هذه الشخصية التي أجحف بها الكثير وذلك من خلال إطلالة على بعض تراثه الذي نحاول أن نستفيد منه في التكامل الشخصي:
التكامل في السير إلى الله
   يقول الإمام المجتبى  عليه السلام: "من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان: آيةً محكمةً وأخاً مستفاداً وعلماً مستطرفاً ورحمةً منتظرةً وكلمةً تدله على الهدى أو ترده عن ردى وترك الذنوب حياءً أو خشيةً".
   هذه الرواية تذكرنا بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله "أوتيت جوامع الكلم" لأنها مع إيجازها وسهولتها إلا أنها تحمل معان كبيرة وتحدد لنا الرؤية الإسلامية في التكامل الشخصي وهذا ليس بغريب على وارث علم رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد أشار الإمام الحسن عليه السلام إلى الأبعاد التي يحتاج الفرد المسلم إلى تطويرها في شخصيته وذلك ليستطيع أن يبنيها وفق المنهج الإسلامي وكيف استطاع الإسلام من خلال المسجد أن يعمل على بناء الشخصية بناء متكاملا محكما نوجزها في الآتي محاولين إيضاح دور المسجد في كل من هذه الأبعاد:-
أ – البعد الفكري:
   الإنسان في سيره إلى الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى الرفد الفكري وهذا الأمر بديهي فتفكر ساعة خير من عبادة سنة فالإنسان قد يقع في بعض المهالك التي لا يمكنه تجنبها من دون رافد فكري متين.
   يقول الإمام الحسن عليه السلام: "عجبت لمن يفكر في مأكوله كيف لا يفكر في معقوله فيجنب بطنه ما يؤذيه ويودع صدره ما يرديه". فحري بالإنسان أن ينظر إلى ما يودعه صدره تجنبا للمهلكة وابتغاء مرضاة الله عز وجل.
   وقد حدد الإمام الروافد التي يحتاج إليها المفكر لكي يستطيع أن يكون من الناظرين إلى ودائع صدره وهي – أي الروافد – على قسمين ترتيبيين:– 
   أولا: الروافد السماوية (آية محكمة)
   فعلى المفكر أن يشكل لنفسه قاعدة ثقافية صلبة عمادها القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم وأهل بيته عليهم السلام وذلك لتكون هذه الأرضية هي الأساس والفيصل في سائر الأمور.
   يقول الإمام الحسن عليه السلام: "ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن فاتخذوه إماماً يدلكم على هداكم".
   ثانيا: الروافد المعرفية العقلية (علما مستطرفا)    
   بحيث يعرض كل ما توصلت إليه الإنسانية من المعارف على القرآن الكريم وسنة النبي وأهل بيته ويأخذ ما يتوافق وما يقولون وإذا كان مخالفا لكلامهم فإنه مردود.
   والمتبع لهذا المنهج يستطيع أن يستفيد من كل شيء وذلك من دون مخالفة الدين ومن دون التقوقع والتحجر في الفكر (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).
   يقول الإمام الحسن عليه السلام: "ما يعلم المخزون المكنون المجزوم المكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غيرُ محمد وذريته".
دور المسجد في البعد الفكري
   والذي يديم الاختلاف والتردد على المساجد يستطيع أن ينهل من أصول الفكر الإسلامي وأن يشكل القاعدة الثقافية القرآنية وفق منهج الرسول الأكرم وأهل بيته سلام الله عليهم أجمعين وذلك لأن المسجد يفترض أن يكون مدرسة لمثل هذه العلوم وهو وأن لا يخلو من حلقة درس ومنبر يبث فكر أهل البيت وتلاوة لكتاب الله العزيز، وذلك حتماً يشمل كل العلوم التي يحتاجها المجتمع.
ب – البعد الاجتماعي:
   لقد خلق الله الإنسان اجتماعيا بطبيعته فهو لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن المجتمع ولذلك فإنه يحتاج إلى النظام من أجل الاستمرار في الحياة من دون تضارب في الحقوق والواجبات التي تحتمها عليه الطبيعة الاجتماعية.
   ما نريد الإشارة إليه في هذا المورد هو ما يقوله الإمام الحسن عليه السلام في الرواية التي اتخذناها موضوعا حيث يشير بعبقرية – وليس ذلك عليه بغريب – إلى أمر مهم ومرتبط جداً بقضية التكامل:
الأخوة الإسلامية (أخا مستفادا):–
   إن الأخوة من دون شك من أكبر الإنجازات التي حققها الإسلام ويسعى إلى ترسيخها على أساس سليم. ولو استعرضنا التاريخ لوجدنا المؤاخاة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وأثرها في المجتمع حيث تغيرت الاعتبارات القبلية والعصبية لها إلى العلاقات الأخوية الإسلامية وقد ساهم بناء المسجد النبوي في تخصيب الأرواح من أجل هذه المؤاخاة كما كان اختيار رسول الله للمتآخين اختيارا دقيقا وحسبنا أنه اختار لنفسه علي بن أبي طالب وهذا دليل قطعي على أن المؤاخاة ليست بالأمر الهين وأنها خاضعة لنظام وقانون لا تكون صحيحة ما لم ينطبق عليها هذا النظام وهي على عدة أصعدة : الاختيار والاستمرار والكماليات إن صحت التسمية.
   وللإمام الحسن عليه السلام نصيحة ينصح بها ولده يقول فيها: "يا بني لا تؤاخِ أحدا حتى تعرف موارده ومصادره فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة".
   من خلال هذه الرواية نستنبط المواصفات التي نحتاجها لمن نريد مؤاخاته على صعيد الاختيار والاستمرار
1.الاختيار ومعاييره:
أ.أن تكون مصادره الفكرية سليمة.
ب. أن نتيقن منه الفطنة والتدبير.
ج. أن نتيقن منه حسن المعاشرة.
2. الاستمرار ودعائمه:
أ.أن تكون الأخوة مبنية على تبادل إقالة العثرات.
ب. التواصي بالصبر والمواساة في الأمور العسيرة بما يستطيع.
3.كمالات:
   هناك رواية أخرى أعتقد أنها كافية في تبيان الكماليات التي نحتاج إليها على هذا الصعيد لا بأس بذكرها كاملة.
   يقول الإمام الحسن عليه السلام: " إني أخبركم عن أخ كان من أعظم الناس في عيني
·       . وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه.
·       . كان خارجا عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إن وجد.
·       . وكان خارجا عن سلطان فرجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه.
·       . وكان خارجا عن سلطان جهله فلا يمد يداً إلا على ثقة المنفعة ولا يخطو خطوة إلا لحسابه.
·       . كان لا يسخط ولا يتبرم.
·       . كان إذا اجتمع بالعلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم.
·       . وكان إذا غلب على الكلام لا يغلب على الصمت.
·       . كان أكثر دهره صامتا فإذا قال بزّ القائلين.
·       . وكان لا يشارك في دعوى ولا يدخل في مراء ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضياً يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول تفضلا وتكرما.
·       . كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخص بشيء دونهم.
·       . كان لا يكرم أحداً فيما يقع القدر بمثله.
·       . كان إذا ابتدأه أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه.".
 
دور المسجد في البعد الاجتماعي
 
 
   إننا عند ملاحظة مركزية المسجد وأهميته في حياة الفرد المسلم بحيث يبحث عن السكن بالقرب منه ولا يترك التردد عليه والتعرف على رواده ندرك دوره الفعال في البنية الاجتماعية وبناء الأخوة الإسلامية مما لا غبار عليه، أضف إلى ذلك أن المساجد يجب أن تحتوي على كل ما من شأنه أن يجعلها محورية في المجتمع، كقاعات الدراسة والمكتبة وحتى رعاية الأطفال. لأن هذه العوامل كلما توافرت كلما صار المسجد مستقطِباً للمجتمع، وأما إن أردناه مسجداً أجوف من كل ذلك هو لن يكون إلا معبداً تعزله جدرانه عن الحياة.
ج– البعد الروحي:
   عندما نتكلم عن الجانب الروحي فإن الموازين والمعايير التي نتحدث بها تختلف عنها في الجانب الفكري والجانب الاجتماعي لأن هذا البعد لا يمكننا أن نتحسسه بالمواد وإنما له أدوات أخرى يدركها الوجدان وأقرب مثال على معايير هذا العالم هو الحب والبغض حيث يمكنهما أن يقلبا الحسن قبيحا والقبيح حسنا إذا ما تمكنا وتغلبا على الجوانب الأخرى وفي ذلك يقول الإمام الحسن عليه السلام: "القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه فلا شيء أقرب من يد إلى جسد وإن اليد تغل فتقطع وتحسم".
   على هذا الصعيد يجب على الإنسان أن يحترس جداً كي لا يقع في ما لا يحمد عقباه من حب الدنيا التي يقول عنها الإمام الحسن: "من أحب الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه".
   هذا ما يخص المعايير والموازين أما ما نريد أن نتكلم عنه في هذا الصدد هو الإشارة البارعة التي أشار بها الإمام الحسن إلى هذا الجانب في الرواية حيث اختصر الكثير من الأمور في كلمته "...ورحمةً منتظرةً...".
   هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول: هل رحمة الله تعالى مختصة برواد المسجد أم أنها عامة على جميع المخلوقات ؟
   الواقع أن الجواب يتراوح بين هذا وذاك ولا يكون دقيقا إلا إذا عرفنا أن الرحمة مقسومة إلى قسمين
1- الرحمة العامة (الرحمن) : وهي التي وسعت كل شيء فالمؤمن والكافر والولي والعدو كلهم ينالون منها ولا يستغني عنها أحد وهي الدليل إلى العبودية حيث كانت فطرة الإنسان تحتم عليه أن يبحث عن مصدر الجود المطلق والمنعم الأكبر فيهدي الله برحمته من يشاء وهذه الرحمة خاصة بالله سبحانه وتعالى ولكنها عامة للخلق أجمعين.
2- الرحمة الخاصة (الرحيم) : وهي الرحمة المنتظرة كما عبر عنها الإمام الحسن التي لا ينالها كل أحد لأنها مشروطة بعدة شروط. فهي خاصة لبعض العباد لكنها -أي الرحيمية- قابلة للإطلاق على غير الله فتجد أنه سبحانه وصف بها نبيه حيث يقول : " بالمؤمنين رؤوف رحيم".
دور المسجد في البعد الروحي
   إن المساجد هي بيوت الله وهذه الحقيقة تبين لنا دور المسجد في تنزل الرحمة على أهله حيث يقول الإمام الحسن عليه السلام: "أهل المسجد زوار الله وحق على المزور التحفة لزائره".ومن مصاديق الرحمة المنزلة والتحفة الربانية في بيوت الله ذلك الدرس العظيم الذي نأخذه بشكل غير مباشر فنحن حين نصلي نذكر رحمة الله أربعين مرة في اليوم والليلة وذلك بقراءة سورة الحمد مرتين في الصلوات الخمس وبهذا التكرار تنتقل الرحمة إلى دواخلنا.
حصيلة التكامل:
   إن الإنسان عندما يلتزم بمنهج التكامل الإسلامي فإنه تلقائيا سيستمر في البحث عن رضا الله في جميع الجوانب الفكرية والاجتماعية والروحية وسيتجنب مسخطات الله فيها وهذا ما أوصى به الإمام الحسن عليه السلام حيث يقول: "ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطك من بطن أمك فخذ مما في يديك فإن المؤمن يتزود وإن الكافر يتمتع {وتزودا فإن خير الزاد التقوى}".
   على هذا الأساس فإننا نستطيع أن نستنتج أن الذنوب تنقسم إلى قسمين:
1- المعاصي: وهذه هي ما تسير عكس تيار التكامل وسببها إما الجهل وإما تعمد المعصية.
2- الوقوف: وهي عبارة عن التوقف عن العمل والمكوث في مرحلة معينة وعدم التطور والتمتع بالزاد.
ولأن الذنوب تختلف عن بعضها فإن أسباب تر ك الذنوب تختلف أيضا فالمعاصي تترك لأنها تجلب غضب الله وتترك خشية من الله أما الوقوف فيترك لأنه مخالف لسنة الكون وهي الحركة ويترك لأنه مخالف لكلام الله حيث يقول"يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه".
   وهنا نجد أن تعبير الإمام الحسن دقيق جدا في أن بعض الذنوب يترك من خشية الله وهذه هي المعاصي وبعضها يترك حياء من الله وهذه إشارة إلى المضي قدما في مسيرة التكامل هو ما يقوله الإمام الحسن عليه السلام: "ترك الذنوب حياء أو خشية".
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق