20‏/03‏/2011

كان وهما .. استدراك




صحيفة اليوم
العدد 13431 السنة الأربعون
http://www.alyaum.com/issue/page.php?IN=13431&P=10

عندما يكون الإعجاب حد الانصهار فإن التماهي الفكري سيكون غير ذي سائس من رشد, وإنما سيكون حمّال أسفار, وهذا التماهي الفكري " الأبله " هو اللونالطافح على اللوحة الثقافية في واقعنا العربي, فلا يكاد أحد وجوه الثقافة يعبس حتى ترى القوم خلفه في عبوس.
وأنا أحمد الله تعالى أن أنقذني من هذه البلاهة الرعناء, التي خفت على نفسي أن أقع فيها عندما أعجبت بالمفكر الكبير الأستاذ محمد العلي, والذي ذابت فيه ألباب ذوي ألباب فأبدعت, وذابت فيه ألباب فتعطلت.

والرجل بما يمتلك من أبوية ثقافية في المنطقة له ظلال ممتد على مشهدها الثقافي, وله مركز كبير في نفوس المثقفين الكبار والصغار – ولست أصنف نفسي من كبار المثقفين – فأنا شخصياً حمدت الله على أنني حضرت له أمسية وقلت في نفسي: سأقول للتاريخ أنني حضرت في أمسية للعلي!

إنه قامة فارعة, ولكنني لم أكن فيه من الذائبين!

في مقاله المنشور في صحيفة اليوم بعنوان (كان وهما ) "1" انطلق العلي من مفهوم الحداثة الذي ادعى البعض أن العرب سبقوا إليه, ليقول العلي أن لهذا القول أشباه كثيرة من ادعاء السبق إلى الحرية وإلى حقوق الإنسان وإلى غير ذلك مما " استسقيناه من سحائب الغير ".
وعلى ذلك فإن هناك من المنصهرين في شخصية العلي سفرغون إلى القطع بأننا أمة لا تاريخ لها, فضلا عن الواقع.

ومع أنني ضد التشبث بالتاريخ الذي لا يستر عورة اليوم, إلا أنني لا أتوافق مع من يقول بهدم التاريخ في سبيل إعادة البناء التي تحتاجها الأمة, وهذا ما لا يقوله العلي أيضا, إلا أنني أعلم أن هناك من سيتقول عليه, وسيمشي في المجالس قائلا: نحن أمة لا تفهم لأنه لا تاريخ لنا.

كتبت هذه الأسطر لأقول: ليس السبيل في رفع الوعي هو الشراسة في الهجوم علىالمتطرف حد التطرف, لأن المتطرفين في " الإسقاط الأبله " على حد تعبير العلي هم متمسكون بالتاريخ, وربما هذا الشيء يعد ورما إلا أنه بحاجة إلى معالجة وليس إلى اسئصال.

نعم .. أنا لا أناقش في هذا المقال مسألة "نمو المفاهيم" لأنني لا أجد في نفسي أهلية أمام العلي في هذه الشأن إلا أهلية الاستفادة والتعلم, ولكنني هنا أريد التحفظ على أنه لا ينبغي الحديث عن الأمة كأمة وكأنها مجرد راهب لا يجيد إلا صلاة الاستسقاء.





يوسف حسن يوسف النمر



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نص مقال العلي
كثير – وانا منهم – كانوا يظنون ان ورود مفردة «حداثة» في التراث يسوغ لناالادعاء بأننا قد سبقنا الغرب في طرح هذا المفهوم.. مفهوم الحداثة – حسبالترجمة التي هي دائما خائنة – وهذا ما اقصد من انه كان وهما.

اطلق اللغويون القدماء على بعض الشعراء لقب المحدثين «يروى بفتح الدالوكسرها» لأنهم ابتدعوا في الشعر ادخال بعض المحسنات الشكلية.. ولم ترد لفظةحداثة في اساليبهم على الاطلاق.. بل وردت في وصف الانثى.. اذ يقال لصغيرالسن حدث ولصغيرة السن «حداثة» نقيض كبير وكبيرة.

هذا الوهم دفعنا الى اليقين الزائف بأن لنا الحق في ملكية العديد من المفاهيم التي استسقيناها من سحائب غيرنا.. بل مع المنة عليهم لأننا مصدر ذلك السحاب: فالديمقراطية اخذوها من الشورى.. وحقوق الانسان اخذوها من الاخوة.. وحقوق الحيوان اخذوها من الرأفة.. اما الحرية فقد اخذوها من معنى الفطرة.. وهكذا.. وهذا ما سماه داريوش شايغان «ادلجة التراث» اما انا فأسميه «عصرنة التراث» أو «الاسقاط الأبله».

كيف نشأ هذا الوهم؟

نشأ من كيفية فهمنا للغة.. ان فهمنا اللغوي قائم على اساس ان معنى المفردة يولد كاملا.. ويبقى كذلك في «سماء المطلق البيضاء» عابرا للتاريخ والجغرافيا.. حيا كما ولدته امه – رحمها الله – وهذا فهم يناقض مفهوم اللغة مناقضة صارخة.

وهذا الوهم يطرح ما يعنيه في اذهاننا مفهوم السبق.. والسبق – وان كان مهما –الا انه مفهوم يعني بداية فكرة ما.. ولكنه لا يعني ان مجرد التشابه فيما تعنيه لفظتان من لغتين مختلفتين.. انهما تعنيان معنى واحدا.. وحتى لو كان ذلك.. فهو لا يعني الاستمرار والصيرورة والتطور من لفظة لغوية قاموسية الى مفهوم يشترك في بلورته التاريخ والجغرافيا.. وحتى لو كان ذلك.. واعتبرنا ان الخطوة الاولى هي الخطوة الاخيرة.. فإن نفس الخطوة قد تكون في غير الاتجاه الصائب.. وما اكثر ما في تراثنا من الخطوات الاولى على الطريق الخطأ.

ما هو الافق المعرفي الذي نشأ فيه التراث علما وادبا وفنا واحلاما؟ انه افق لفظي.. كل المعرفة كانت حشدا من الالفاظ.. لقد كان اللفظ هو السيد حتى اصبحت اللغة هي التي تسيطر على ذهن الانسان لا العكس.

لنضرب مثلا:

هل هناك افصح تجسيدا للوجدان البشري والحس الانساني افضل من الحب؟ الحب بكل اشكاله وابعاده.. ثم هل هناك خصوصية اعمق من الحب بين الرجل والمرأة حين تلاقي النصفين – كما ترى الاسطورة – وهل هناك تعبير افصح عن ذلك الامتزاج من الغزل؟ طبعا «لا»..

ولكن ضع الغزل العربي في ميزان التقييم.. لا شك عندي ان بعض الشعراء كانيتوهج حبا.. ولكن حين يحاول التعبير عن هذا التوهج ينفصل عن نفسه – الانادرا – ويسلك النهج السائد عند الشعراء الاقدمين.. فقد يكون هذا الشاعراندلسيا لم ير في حياته طللا.. ولكن حين يأتي الى الشعر ليبث اشواقه اصبح وكأنه لم ير نهرا ولا شجرا حتى لو كان محبا اكثر من ابن زيدون.. نعم هناك سلسلة من الشعر القديم كبلت وجدانه ورمته في زنزانتها اللغوية.

لكن لماذا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق