13‏/08‏/2011

الحسن والحسين .. والفتنة



على مدى التاريخ تمر على المجتمعات البشرية قضايا عصيبة تختلط فيها الأمور وتتداخل فيها الاعتبارات مما يؤدي إلى حالة من التنازع لا يمكن لأحد من أطرافها أن يكسب شيء من دون خسارة شيء آخر, بل إنه يجد نفسه مضطرا إلى التضحية بجانب ما في سبيل اكتساب غيره.


وهنا سأحتاج إلى شرح بعض الأمور البديهية لتوضيح الرؤية.


مثلا, لو عطش أحدهم ولم يكن الماء موجودا إلا عند رجل منان فإن بعض الناس يقبل المذلة لشدة العطش وبعضهم يفضل الموت عطشا دون مذلة ولا منة من أحد.


فالأطراف في هذا المثال اثنان:


الأول: محتاج إلى الماء ومحتاج إلى حفظ كرامته أيضا.


والثاني: يريد إشباع شهوته بإذلال الناس مقابل الطاقة التي يمتلكها وهي الماء في المثال.


فقرار الإنسان في هذا الموقف سيعتمد على وعيه للمسألة وأبعادها وعلى تقديره للأمور, فربما يقدر بعضهم أن حياته معرضة للخطر إن هو لم يشرب الماء وهو مستعد لأن يضحي بكرامته مقابل الحفاظ على حياته.


وبعضهم يقدر أن حياته لا تساوي شيء إذا باع كرامته بجرعة ماء ، فاستمع إليه يقول:


وأظمأ إن أبدى لي الماء منة
ولو كان لي نهر المجرة موردا


بناء على ذلك سيختار الإنسان أحد أمور, فإما أن يشرب الماء ويبيع كرامته, وإما أن يموت عطشا محتفظا بكرامته.


وليست هذه هي الاختيارات المتاحة فحسب ، فبعضهم قد يقاتل من أجل الماء, لعله بذلك يحفظ حياته وكرامته، وغير ذلك من القرارات التي تتخذها الأذهان كل بحسب وعيه.


هذا الموقف وأمثاله يلزم الإنسان بمراجعة حساباته فيما يتعلق به (حياته وكرامته في المثال) وبالغرض الذي يريده (حفظ الحياة والكرامة) وبمن حوله (صاحب الماء المنان) وبالظروف التي تحيط به (محاولة منعه من الماء) فيقوم بعملية موازنة معتمدا فيها على وعيه, وتكون نتيجة هذه الموازنة أنه سيتنازل عن شيء ما مقابل شيء آخر, لذلك يجب عليه الحذر في اتخاذ القرار حتى لا يفرط في الأكثر أهمية من أجل الأقل أهمية.


هذا المثال هو نموذج مبسط جدا للفتنة، التي وإن كانت قاسية مرة في بعض جوانبها إلا أنها مرحلة لامتحان النضج الفكري والإرادة النفسية وربما حتى القوة الجسدية.


بل هي الامتحان الذي يفترض بالإنسان أن يدأب في حياته من أجل النجاح فيه، لأنه لا مجال للإعادة فيه أو إعادة موازنة الأمور المتعلقة به.


والتاريخ مشحون بالمواقف التي ضحى فيها عقلاء بأمور بالغة الأهمية في سبيل أمور أهم منها، وحمقى باعوا أغلى ما يملكون بتوافه الأمور.
ومع وضوح الأمر سأسوق له بعض الأمثلة من حياة الإمامين الحسنين




الإمام الحسن عليه عندما وضع في موقف اضطر فيه أن يختار بين أن يقاتل الظالمين ويكون في ذلك هلاك من بقي من حملة الدين وبقاء معاوية الذي آلى على نفسه إلا أن يدفن دين محمد، وبين أن يحفظ الدين بحقن الدماء والمصالحة وادخار الثورة لوقت تكون فيه أصلح للأمة, اختار الصلح بالرغم مما توهمه الكثير من الناس أنه استسلام وذل.


إن الموازنة فرضت عليه اختيار أحد أمرين, فتجرع غصص الصبر على ما كان به من أذى، ولقد عاب عليه ذلك حتى بعض أصحابه غير الواعين لأبعاد المسألة، وهذه تضحية عملاقة بالمكانة من أجل أمر أهم وهو الدين الحنيف.


وكذلك الإمام الحسين عليه السلام عندما وضع في مثل هذا الموقف (الفتنة) كان مطلوبا منه أن يحدد أيهما أولى: مهادنة الظالم وبها يكون موت الضمير الحي في قلوب الأمة, أم بث الحياة في قلوب البشرية ولازمه الشهادة.


فرفض عار المساهمة في قتل ضمير الأمة ومحو معالم الإسلام، وأطلق صرخته المدوية "الموت أولى من ركوب العار"
وصنع بالشهادة طريق الحياة الكريمة.


هذه أمثلة لتوضيح مسألة الفتنة في المجتمع, وأنها كلما ازدادت أطرافها وكلما تغيرت المطالب كل طرف وكلما كان مستوى الوعي أكثر تفاوتا لديهم فإن الفتنة ستكون مختلفة الملامح وستحتاج بطبيعة الحال إلى نوع مختلف من التضحية بحسب الحاجة، فأحيانا تكون التضحية بالنفس وأحيانا تكون بالجاه وأحيانا لا يفهمها الناس وأحيانا تكون واضحة وأحيانا يجني الإنسان ثمار تضحيته وأحيانا يجنيها غيره.


وأعظم بلية في الفتنة هي استغلال حاجات ومصالح وأهداف الغير من أجل الوصول إلى غايات شخصية بطريقة غير أخلاقية وغير مستندة إلى وازع من دين أو معاتب من ضمير.


هذه الطريقة هي التي سماها مولانا أمير المؤمنين بالفجور عندما تكلم عن معاوية وكيف أنه يستطيع أن يحقق أهدافه في الفتنة حين قال عليه السلام: وما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر.


لو نظرنا إلى معاوية وأساليبه الملتوية بأحد الأبعاد التي نظر إليها أمير المؤمنين لفهمنا  التالي: إن معاوية الذي لا تعييه الخديعة ولا تنقصه حيلة ولا دهاء وغدر ومكر في سبيل الوصول إلى هدفه, نجده وإن بدى رابحا في دنياه إلا أنه الخاسر الأكبر في الفتنة بل هو أكبر المضحين حينما قدم آخرته ضحية في سبيل الحصول على الدنيا.


ذلك أنه لم يزن الأمور بوعي، فدخل سوق التجارة وهو ليس من أهلها فخسر دنياه وآخرته.


إن من يقول بأن معاوية كسب الدنيا وخسر الآخرة بإنه واهم لأن معاوية لم يستطع حتى أن يحقق جميع أهدافه التي وضعها نصب عينيه، فهو القائل: "لا والله إلا دفنا دفنا".


وصدق المرحوم الشيخ أحمد الوائلي عندما قال:


راموا بها أن يدفنوك فهالهم
أن عاد سعيهم هو المدفون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق